أخر الاخبار

ضمن سلسلة مقالات"العمليات القذرة"الدكتور صالح كركر

>

بقلم :   ماهر زيد 

لم يرتكب الدكتور  صالح كركررحمه الله الرئيس السابق لحركة النهضة منذ لجوئه إلى فرنسا في صائفة 1987 من الأعمال ما يستدعي وضعه رهن الاقامة الجبرية او أي نوع اخر من انواع العقاب.

لقد ظلّ محترما لأصول الضيافة و ناشطا في المجالين الشخصي و السياسي ضمن أطر القوانين المعمول بها في فرنسا. بل كان جد ايجابي و مطمئنا الى أبعد الحدود بالنسبة للمخابرات الفرنسية التي كان أعوانها يلتقونه من حين الى اخر ليتأكدوا من أنّه لازال وفيا لاصول الضيافة التي تمنع عليه التخطيط او التحريض على أعمال "عدائية" ضد دول اخرى كما يقولون .

و رغم التحريض المستمر الذي ظلت السلطات التونسية تمارسه آنذاك من أجل إسترجاع صالح كركر فإنّ الفرنسيين كانوا على يقين أن الرجل لم يكن يشكل اي خطر على السلم الأهلي او يرتكب أيّا من الاعمال الضارة بالعلاقات الفرنسية الاجنبية.

غير أنه بحلول العام 1993 تغيرت ظروف كثيرة في المستعمرات الفرنسية السابقة المطلّة على على البحر المتوسط . فالجزائر صارت على كفّ عفريت ، ما بين سلطة تبحث عن شرعية بعد تدخل الجيش الذي ألغى نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 1991 و التي فازت فيها الجبهة الاسلامية للانقاذ باكثر من 80 في المئة من الأصوات من جهة و بين تنظيمات اسلامية مسلحة تفرعت عن الجبهة الفائزة في الانتخابات و المنحلة بقرار الجيش .
لقد كانت تقارير استخباراتية عدة تتحدث عن إحكام التنظيمات المسلحة السيطرة على ثلث البلاد نهارا و النصف ليلا .زيادة على ما تكنه هذه التنظيمات من كره و حنق على الدولة الفرنسية جراء تنكرها لمبادئ الديموقراطية و حق الشعوب في تقرير مصيرها و ذلك من خلال دعمها لتدخل الجيش في الحياة السياسية بل و انخراطها لاحقا في المجهود العسكري من اجل سحق التمرد المسلح الرامي الى استرجاع الحكم الذي افتكه الجيش.

أما في تونس التي كانت اكثر استقرارا بكثير من الجزائر فإن الصراع بين السلطة و حركة النهضة أفرز احتقانا كبيرا أنذر بتحول الصراع من سياسي الى عنيف من اجل الحكم.

و في خضم هذه الأجواء المشحونة إقليميا و التي لا أفق لها ، بدأت أجنحة داخل الأجهزة الإستخباراتية للدول المعنية بالجنوح الى الى خيار التكتيكات القذرة من اجل الإسراع بإنهاء التهديد الذي تشكله المعارضات للانظمة القاءمة.

و بتأكد السلطات التونسية من استحالة استرجاع صالح كركر او غيره من المعارضين و إحساس الاجهزة الامنية و القضائية بالفشل و الخيبة نظرا لفشلها في إقناع الجانب الفرنسي بطرد اللاجئين السياسيين من اراضيها، صارت القناعة متأكدة خصوصا لدى جهاز امن الدولة بضرورة فعل اي شيء من اجل تحقيق أي مكسب كان.

عز الدين جنيح مدير امن الدولة انذاك و العقول المحيطة به اهتدت الى خيط يوصلها الى دائرة العلاقات الشخصية الضيقة لصالح كركر.

انه شاب ابن السادسة و العشرين عاما من المتفوقين دراسيا و ممن انخرط منذ صغره في انشطة احزاب اسلامية المرجعية.غير ان ما يميزه عن غيره ليس فقط معرفته لصالح كركر و فوزه بحضوة لديه ، فآخرون ايضا كانوا يحضون بثقته .لكن هذا الشاب كان بالاساس ابن زميل لهم.

فقد توفق هذا الاب في اقناع ابنه بضرورة العودة الى تونس لمواجهة بعض الاسئلة ثم يطلق سراحه عوض ان توجه له تهمة التآمر على أمن الدولة نظرا لعلاقته بصالح كركر و يحرم بناء على ذلك من العودة الى ارض الوطن.و نجح الجهد في اقناع الشاب بالعودة الى تونس أواخر شهر جويلية من تلك السنة (1993) ليجد نفسه أخيرا على أريكة فخمة في مواجهة كاميرا.

لقد تم تلقينه بحضور والده ما يتوجب عليه "الإعتراف" به بلسان فرنسي.

لم تكن "اعترافاته" و ظهوره امام الكاميرا لغاية قضائية. لقد كانت وجهة الشريط قصر الإليزيه و قد حضر وزير الداخلية الفرنسي شارل باسكوا بنفسه ليتسلمه.

لقد تضمن الشريط "اعترافات" بأن الدكتور صالح كركر قد أوعز الى هذا الشاب رفقة آخرين مهاجمة مؤتمر الحزب الحاكم المزمع عقده يوم 29 جويلية 1993 سيارة مفخخة. كما طلب منه الاستعداد لمهاجمة الجالية اليهودية التونسية و اغتيال الوزير محمد الشرفي و القائد النقابي اسماعيل السحباني . كما تضمنت "توصيات" صالح كركر جمع معلومات عن الوفود السياحية قصد مهاجمتها.

إستلم شارل باسكوا الشريط و طار به على جناح السرعة الى الإليزيه ليقنع حكومته بضرورة ترحيل المعارض التونسي لمخالفته أصول الضيافة و قوانين اللجوء بتخطيطه لمهاجمة دولة اخرى انطلاقا من الاراضي الفرنسية .و عندما لم تبد أية دولة رغبتها في استضافته قررت السلطات الفرنسية وضعه تحت الإقامة الجبرية و الحراسة المشددة معتبرة إياه "خطرا على الامن".

استمر احتجاز كركر ما يقارب 18 سنة كاملة انتهت بوفاته بعدما عانى سنوات طويلة من الغربة و الوحدة و المرض.

و هنا لابد من الوقوف وقفة تامل عابرة سامحين لانفسنا افتراض عدم انصياع فرنسا لابتزاز المخابرات التونسية و إخضاعها صالح كركر للاقامة الجبرية.ألم يكن واردا بل منتظرا ان يقدم جهاز امن الدولة على تنفيذ اجزاء من هذه "التهديدات" كقتل اليهود التونسيين او تفجير سيارات مفخخة في اماكن عامة من اجل اقناع فرنسا بخطورة كركر و جرجرتها الى تحييده عن ساحة الفعل السياسي ؟

اما اليوم و بعد نجاح الثورة التونسية في اجبار الرئيس المخلوع على الفرار و حل جهاز امن الدولة و وصول ذلك الشاب ابن الاطار الامني الى اعلى سلم المسؤولية في أول حكومة منتخبة بعد الثورة ، يستمر التعتيم و الإنكار للمكيدة التي دبرت بليل في مقر وزارة الداخلية صائفة 1993.

اليوم مع دخول الاغتيالات و التفجيرات و الذّبح قاموس المفردات السياسية بقوة ،و مع عجز السلطات عن تحديد هوية المدبّرين و المخطّطين لاغلب هاته الجرائم ، بات ضروريا أكثر من أي وقت مضى الاقدام على فتح ارشيف البوليس السياسي و عرض اساليب و تكتيكات هذا الجهاز على الباحثين و الدارسين و خصوصا الأجهزة الامنية العاملة لمساعدتها في فك شيفرة الجرائم السياسية المسجّلة ضدّ مجهول.

و لا شك ان احتجاج وزراء الداخلية المتعاقبين كون هذا الأرشيف يحتوي إساءة للافراد و الاعراض و لن يتم فتحه يرتكز في جزء كبير إلى المنطق .
غير ان تواتر الجرائم السياسية و بشاعة ملامحها و عجز السلطات عن تحديد هوية مخططيها، يجعل الإستفادة من هذا الارشيف أمرا حيويا لا مفر منه .



جميع الحقوق محفوظة ©2016